بقلم أ. مصطفى طه باشا
السّياسة
ليست علمًا ثابتًا يقوم على قواعد جامدة, بل هي مجال ديناميكي يتغيّر فيه كل شيء,
بحسب المصالح والتوازنات والتحالفات, من أبرز مظاهر هذا التغيّر هو ما يُعرف
بـ"عدو الأمس صديق اليوم" حيث تنقلب المواقف جذريًا نتيجة تبدّل المُعطيات
والظروف, قد يرى البعض في هذا التبدّل تناقضًا أو نفاقًا, لكنه في الحقيقة جزء لا
يتجزأ من الواقعية السياسية التي تحكم العلاقات الدولية.
في
العلاقات الدولية؛ لا توجد عداوات دائمة, ولا صداقات دائمة, بل هنالك مصالح دائمة,
هذا المبدأ هو ما يُفسر كيف يمكن لدول خاضت حروبًا أو صراعات مريرة, أن تتحول لاحقًا
إلى حلفاء وشركاء استراتيجيين, فالمُعادلات السياسية والاقتصادية والإقليمية تتغير
باستمرار, مما يدفع الدول إلى إعادة تقيّيم تحالفاتها وعداواتها.
ومن
أبرز الأمثلة التاريخية على "عدو الأمس صديق اليوم" الولايات
المتحدة وألمانيا واليابان؛ بعد الحرب العالمية الثانية, كانت
الولايات المتحدة في حالة عِداء شديد مع كل من ألمانيا النازية واليابان
الإمبراطورية, خاضت ضدهما حربًا ضروسًا أودت بحياة الملايين, ومع نهاية الحرب
تغيرت المعادلات إذ تحولت ألمانيا الغربية واليابان إلى حلفاء أساسيين للولايات
المتحدة في مواجهة الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة, ومن
الأمثلة مصر وإسرائيل؛ حيث خاضت مصر عدة حروب ضد إسرائيل في إطار
الصراع العربي الإسرائيلي, لكن بعد حرب أكتوبر وقّعت مصر اتفاقية كامب ديفيد عام
1978 لتصبح أول دولة عربية تعترف رسميًا بإسرائيل, وتدخل معها في علاقة سلام رسمي,
وأيضًا هناك الولايات المتحدة وفيتنام؛ حيث خاضت
الولايات المتحدة حربًا طويلة ودموية ضد فيتنام الشمالية, خلال ستينيات وسبعينيات
القرن العشرين, ومع مرور الزمن تحسنت العلاقات بين البلدين, واليوم توجد علاقات تجارية
وسياسية بينهما, وتعتبر فيتنام شريكًا مهمًا في الاستراتيجية الأميركية لمواجهة
النفوذ الصيني في آسيا.
من
أبرز أسباب هذه التحولات السياسية؛ تبدّل المصالح الاستراتيجية, حيث يدفع تغيّر الأولويات الاقتصادية أو العسكرية أو الأمنية الدول لإعادة
النظر في تحالفاتها, وأيضًا ظهور عدو مشترك, وتغيّر الأنظمة السياسية؛ فسقوط
نظام أو مجيء قيادة جديدة قد يُغيّر نهج الدولة في السياسة الخارجية, بالإضافة لضغوط
دولية وإقليمية؛ حيث تلعب التدخلات من الدول والقوى الكبرى, دورًا
مهمًا في تغيّر النهج والسياسة, ولا ننسَ التحولات الجيوسياسية التي تفرض واقعًا
جديدًا.
"عدو الأمس صديق اليوم" ليست مجرد عبارة, بل حقيقة متكررة في التاريخ السياسي, تعكس مرونة السياسة وواقعيتها، حيث تكون المصالح فوق الشعارات, لذا لا يمكن الحكم على العلاقات الدولية بمنطق العواطف أو الثبات, بل بفهم دقيق للمصالح والتحولات, ومن هنا نقول: إن تقلّب المواقف ليس بالضرورة ضعفًا أو خيانة, بل قد يكون تعبيرًا عن براغماتية ضرورية للبقاء في عالم مُتغيّر.