JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
Home

السلم الأهلي… معركة ما بعد الثورة



 

بقلم رئيس التحرير أ. مصطفى طه باشا

 

بعد أن تهدأ أصوات المدافع, وتخفت شعارات الميادين, تبدأ المُجتمعات الخارجة من رحم الثورات, معركة أخرى لا تقل صعوبة, معركة إعادة بناء الثقة بين أبنائها, فالسلم الأهلي الذي قد يبدو شعارًا مثاليًا للبعض, يتحول إلى حاجة مُلحّة لإنقاذ الدول من شبح الانقسام والانهيار, ومعركة وجودية تحدد مصير الدولة والمجتمع.

تُسدل الثورات ستارها على أنظمة رحلت, لكنها تفتح ستارًا آخر على تحديات أكثر تعقيدًا؛ كيف نعيد بناء وطن تتقاسمه جراح الماضي وطموحات المستقبل؟ السلم الأهلي ليس غيابًا مؤقتًا للعنف, بل هو ثقافة تعايش راسخة تقوم على احترام التنوع والاختلاف, وحل النزاعات بالحوار والقانون, بعيدًا عن منطق الثأر والانتقام, فهو يُعد الضمانة الوحيدة لاستقرار المجتمعات وإعادة إطلاق عجلة التنمية.

السلم الأهلي هو حالة وعي جماعي, تتجسد في احترام الاختلافات وحل النزاعات بالحوار لا بالسلاح, إنه ثقافة تتجاوز الصمت المؤقت عن العنف, إلى بناء ثقة متبادلة بين المواطنين, على أساس العدالة والمساواة, فبدونه تظل الثورة تدور في حلقة مفرغة من الانتقام والانقسام.

لماذا نحن بحاجة إليه الآن؟ بعد الثورات تنكشف الانقسامات الأيديولوجية والسياسية, وتتحول ساحات النضال إلى ساحة صراع على الهوية, ويملأ فراغ السلطة خطر الفوضى, ويتسع المجال أمام التطرف, السلم الأهلي يُعتبر درع ضد الفوضى؛ انهيار الأنظمة القديمة يترك فراغًا تستغله قوى التطرف, ما لم يُحصَّن المجتمع بثقافة السلام حفاظًا على وحدة النسيج الاجتماعي, فالخلافات الأيديولوجية والسياسية قد تتحول لصراعات دامية ما لم تُدار بروح التسامح, وحده السلم الأهلي يحمي وحدة المجتمع, ويُمهّد الطريق للإعمار والتنمية, وفتح باب الاستثمارات والمشاريع الكبرى, ولا ينبغي أن نغفل ترميم الجراح النفسية, فسنوات الصراع تترك ندوبًا لا تندمل إلا بمبادرات مصالحة وعدالة انتقالية, كي تُتيح للأجيال القادمة أن تحلم دون خوف, وفي هذا السياق لابد من الاستفادة من دروس المجتمعات الأخرى؛ فجنوب إفريقيا أنهت عقود الفصل العنصري, عبر لجان الحقيقة والمصالحة التي واجهت الماضي بشجاعة, ورواندا التي عانت من إبادة جماعية, أعادت لُحمتها عبر محاكم مجتمعية تصالحية, وتونس أنقذت ثورتها من الفوضى بالحوار الوطني, الذي جمع الفُرقاء على مائدة واحدة.

سورية اليوم على مفترق طرق؛ فبعد أكثر من عقد ونصف من النزاع, تبدو سورية اليوم أمام فرصة لاختبار قدرتها على تضميد الجراح, والمطلوب عدالة انتقالية شاملة, تكشف الحقيقة وتُنصف الضحايا, مع حوار وطني يضم جميع الأطراف بلا إقصاء, وإصلاح منظومتي التعليم والإعلام لترسيخ ثقافة التسامح, إضافة إلى مشاريع اقتصادية تُعيد الحياة للمناطق المتضررة, والأهم من ذلك؛ تمكين المجتمع المدني والشباب, ليقودوا مسيرة السلام نحو تحقيق الاستقرار والازدهار.

قد تُكسِب الثورات حرية الشعوب, لكنها وحدها ثقافة السلم الأهلي القادرة على تحويل هذه الحرية إلى مستقبل مزدهر وآمن, فبدونها تبقى أبواب العنف مفتوحة على مصراعيها, أمّا معها فيولد وطن جديد يتسع لجميع أبنائه, المعركة الحقيقية تبدأ بعد توقف أصوات البنادق, حين يجلس الجميع حول طاولة الوطن المشترك, ليكتبوا معًا الفصل الجديد من حكاية وطن جديد مع حلم جديد.

NameEmailMessage